في صحبة لصوص النار
رحلة ممتعة في عقل وروح 13 كاتبا عالميا
لا يسع أي صحفي ثقافي غيور على مهنته إلا أن يشعر بالغيرة من جراء قراءة كتاب مثل "في صحبة لصوص النار" لجمانة حداد، فالكتاب يضم حوارات مع 13 كاتبا من ألمع كتاب العالم، يمثل كلا منهم مشروعا أدبيا قائما بذاته، وبعضهم من حائزي جائزة نوبل، وهم جميعا قامات أدبية لها حسابها في خارطة الفكر والإبداع العالمي المعاصرة، والمؤكد أن أي صحفي معني بالثقافة والأدب لديه الطموح لأن يحاور مثل هؤلاء الكتاب، وهو ما سعت وبادرت إليه جمانة حداد وحققته باقتدار. أما القارئ الذي لا تعنيه كثيرا غيرة الصحفيين وتفاصيل مهنتهم فلا يعنيه سوى المتعة، وهي المشترك الأساسي لكل من يقرأ هذا الكتاب.
يضم الكتاب حوارات مع كل من "إمبرتو أيكو"، "جوزيه ساراماجو"، " أيف بونفوا"، "بول أوستر"، "باولو كوليو"، "بيتر هاندكه"، "ماريو فارياس يوسا"، "ألفريده يلنك"، "أنطونيو تابوكي"، "الطاهر بن جلون"، "مانويل فاسكيث مونتالبان"، "نديم جورسيل"، "ريتا دوف".
تحكي حداد قبل كل حوار قصة الحوار، كيف بدأت محاولاتها الدؤوبة في الاتصال بالشخص، وكيف سارت الأمور، سفرا إلى باريس، أو إلى إيطاليا، أو ألمانيا، وأحيانا، إلى صدف نادرة مثل اتصالها المستمر بأنطونيو تابوكي، ثم اتصالها به في باريس خلال تواجدها هناك، لتجده قد ألغى رحلة بالصدفة وعاد إلى بيته الباريسي حيث التقته وأجرت الحوار.
أما الحوارات نفسها فتعكس معرفة المحاورة الجيدة بأدب كل من الكتاب الذين خططت للقائهم، وبالكثير من المعلومات عن إنجازاتهم، وأهم مراحل حياتهم، مما يعطي عمقا للأسئلة المطروحة، والأهم هو طابع الندية في الحوار، فالمحاورة هنا ليست مجرد صحفية لديها قائمة أسئلة تقوم بتسجيل الإجابات على جهاز التسجيل الذي يخصها، وإنما مثقفة لها أفكارها الخاصة ورؤاها، ومداخلاتها التي تضع القارئ في كل حوار أمام كاتبين وليس كاتبا واحدا، وهي بهذا تقدم نموذجا للحوار الصحفي ليس بوصفه حوارا ترويجيا يبتغي الحصول على أجوبة تعليمية أو وعظية، وإنما حوار معرفي ينطلق من العلاقة الثقافية الندية بين السائل والمجيب.
الحوار في هذا الكتاب سفر كما تقول جمانة حداد:" زيارة تقوم بها إلى عقل الآخر وقلمه وروحه وحياته ومزاجه، وربما مكبوتاته ولاوعيه. تجوال في أمكنة، وترحال داخل أشخاص و"شخصيات". بازل ملون، مؤلف من مدن ومواهب وطبائع متباينة، تجمع نيويورك بلندن، الشاعر بالروائي بالمفكر، الانطوائي بالاستعراضي بالبين بين، والمبدأ بنقيضه أو بجسر الوصول إليه. هكذا قدم لي الكتاب الذين حاورتهم، بطريقة غير مباشرة، هدايا نادرة. فصحيح أني جلت العالم برفقتهم من أسبانيا إلى ألمانيا، ومن البرتغال إلى كولومبيا، وهلم، لكن يظل الأهم والأثمن أنهم سمحوا لي أن أطوف في اشد العوالم تشويقا وإثارة وغنى: عالم فكرهم المتنوع".
والحوارات لا تكتفي بالعميق الملتبس، أو بالأفكار الأدبية والسياسية فقط، وإنما تتحيز للإنساني أيضا، وتكشف الكثير من الجوانب الشخصية للكتاب، ليس ادعاء المعرفة عما لا يعرفه الآخرون وإنما مما تنقله المحاورة من تفاصيل تمر عبر الحوار، فهي مثلا في حوارها مع الكاتب البيروفي المبدع يوسا تقول:" قريب يوسا، ودود ومحب، كأنه لفرط دفئه وحنانه وبساطته، ذلك العم البعيد الذي هاجر إلى أميركا اللاتينية عندما كنا أطفالا، وعدنا لنلتقي به الآن. يتمتع بحس فكاهة رائع، ولكم ضحكت عندما شرعت في عملية تفريغ الحوار على الورق، ورحت أستمع إلى رنين قهقهاتنا في الشريط كل خمس دقائق(..) يتكلم يوسا بصوت عال جدا ، كخطيب على منبر، وبالطريقة نفسها يتحدث في أسرار الأدب وفي احتمالات القهوة: " هل تريدين السكر أو الحليب مع فنجانك؟" سألني فجأة في منتصف لقائنا، بين جملتين في موضوع الإيروتيكية، وذلك من دون أي تغيير في النبرة، حد أنني ظننت لوهلة أن استفهام روحه المضيافة هو جزء "سوريالي" من جوابه عن دور الجنس في الآداب والفنون".
كما تقدم أوصافا عابرة ودقيقة عن أماكن اللقاء والانطباعات الأولى عن الشخصيات ، مثل غرفة مكتب إيكو بالمدرسة العليا للعلوم الإنسانية بإيطاليا، والتي تصفها ب"مغارة على بابا بنسختها الإيطالية الحديثة، ومن بين ما تصف به إيكو نفسه البراجماتية والحرص الشديد على الوقت، وتصف الفوضى في المكان ثم تضيف:" ودعونا لا ننسى المنفضة الطافحة بأعقاب السجائر. فالأستاذ العزيز، والخطيب البليغ إذ يتلمظ الكلمات إذ يتفوه بها لم يكف عن التدخين لحظة واحدة طوال مدة اللقاء".
وعن بول أوستر تقول:" رجل كثير الدفء كثير المرح كثير الموهبة كثير الخفر هو بول أوستر: كنت حدست ذلك منذ لقائنا "القرائي"، ثم "الصوتي"، وترسخ الشعور عندما تعارفنا." الكتاب هو المكان الوحيد في العالم الذي يستطيع فيه غريبان كاملان أن يلتقيا بحميمية كاملة" يقول هذا الروائي الكبير. صحيح، لكنه لا يعادل لذة اللقاء بك وجها لوجه يا ساحر نيويورك".
اما الأفكار التي يتضمنها الكتاب فهي بمثابة شحنة معرفية موسوعية موضوعها المعلن الأدب بينما تتراوح بين الشعر والحداثة والنص التفاعلي إلى الكتابة الشبقية ومنها إلى السياسة والالتزام، وجماهيرية الكاتب، والدين والتصوف والنسوية وغيرها وغيرها مما يجعل من أي قراءة غير مباشرة للكتاب مبتسرة وفاقدة للكثير من الحيوية والدقة والمتعة التي يتضمنها جميعا هذا الكتاب الصادر عن دار النهار، إضافة إلى طبعة أخرى عن دار"أزمنة" يتم توزيعها في العالم العربي.
No comments:
Post a Comment