Wednesday, July 4, 2007

البريد على مرمى ضغطة إرسال




الأدب من البريد الجوي إلى الرسائل الإلكترونية

على مدى عقود احتلت الرسائل الشخصية للكتاب مكانة مهمة، واعتبرها الباحثون مادة جيدة للتعرف على الكثير من الجوانب الشخصية والفكرية للأدباء ورجال الفكر والأدب والسياسة، كما اعتبرها الجمهور مادة جيدة ترضي فضولهم الذاتي في تقصي الجوانب الشخصية والحياتية لشخصيات صوروا بوصفهم نجوما، تحيط بهم هالات التمجيد والإكبار، كأنهم بلا نوازع أو أهواء.
ولذلك فكثيرا ما كانت هذه الرسائل سببا لإثارة بعض الفضائح، أو شرارات تفجر الكثير من القنابل المدوية على صفحات الصحف، تكسر، في ساعات قليلة، أحجار مستقرة تراكمت ترسخ صورا محددة لكتاب ورجال سياسة، أو لفنانات ذائعات الصيت، أو فلاسفة.
ولعل كل ذلك يعود أولا لأهمية الرسائل كوسيلة أساسية للتواصل بين الجمهور بشكل عام، سواء في المخاطبات الرسمية والعملية، أو في المكاتبات الشخصية، بين الأصدقاء، أو أفراد العائلة، أو بين العشاق.
ومكاتبات العشاق ورسائلهم، على نحو خاص، كان لها الكثير من البريق الذي أثار الاهتمام، ومنها مثلا الكتاب الذي نشرته الكاتبة السورية غادة السمان حول علاقتها بالكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني بعنوان"رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان" والتي أثارت ردود فعل واسعة حال صدوره وأتبعته هي بكتاب آخر حول ردود الفعل هذه بعنوان "محاكمة حب" نهاية عام 2004. وأهدته إلى" إلى عشاق الشعب على الغبار والشخير التاريخي، الذين تعبوا من المنظرين للرياء والدجل واستغباء الناس وقمعهم وتخويفهم وإرغامهم على القيام بدور الرقيب الذاتي.
إلى الذين يحلمون بمستقبل حي متطور عصري لأدبنا العربي، ولا يفتقرون إلى الرؤيا والطموح لمشروع بأفق شاسع، وإلى الذين يجدون أن الفضيحة تكمن في إحراق أوراق المبدعين لا في نشرها:
ويرفضون أن تتم «قولبة» سيرة المبدعين على مقاس مصالح بعض معاصرتهم.. وإحراق ما تبقى، وإلى عشاق أدب السيرة الحقيقي لا المزور، وإلى الحالمين بمؤسسة عربية تحتضن هذا الفن خاصة وفي السيرة العربية عامة".
وهناك الكثير من الرسائل العربية التي أثارت صخبا منها أيضا أوراق عميد الأدب العربي طه حسين التي نشرها الأكاديمي عبد الحميد إبراهيم. وكشف فيها عن موقف عدائي واضح تجاه صاحب الرسائل، من خلاله تأكيده لذلك واتهامه بأن الدور الذي لعبه في الثقافة المصرية يماثل دور كمال أتاتورك في تركيا.
وهناك أمثلة أخرى كثيرة. لكنها لا تقارن بالنماذج المثيلة في الغرب التي تهتم فيها الدوائر الإعلامية كثيرا بمثل هذا النوع من الكتب التي قد تأخذ شكلا فضائحيا مبالغا فيه مثل ما فعلته إحدى الكاتبات الفرنسيات قبل عدة أعوام بنشر الرسائل ووصف العلاقة العاطفية والحسية مع زوجها. كما نشر كتاب آخر يتضمن خطابات الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار إلى عشيق لها، رغم علاقتها بالكاتب الفرنسي جان بول سارتر، وهو ما أعاد للأذهان حقبة الستينات الأوروبية بكل ما مرت به من دعاوي التحرر، ونقد البورجوازية بما فيها استبدال العلاقات الحرة بمؤسسة الزواج التقليدية.
كما نشرت زوجة الشاعر البريطاني الأشهر ت.إس إليوت رسائله في كتاب، لكنه، في تلك المرة، اعتبر استعادة لسمعة الرجل، وردا على بعض انتقادات وجهت إليه حتى أن ملحق صحيفة الجارديان نشر تقريرا عن الكتاب مسبوقا بسؤال هو: هل أساءت فاليري إيليوت، أرملة الشاعر ت.س. إيليوت، إلى سمعة زوجها بتأخيرها نشر رسائله رغم تفانيها في المحافظة على هذا الكنز الأدبي؟
وتساءلت كاتبة المقال والتي عهدت لها زوجة إليوت بمهمة تصنيف وتجهيز الخطابات للنشر: هل يمكن تحقيق إرادة رجل وضع شرطاً رئيساً لمنفذي وصيته الأدبية يتلخص في الامتناع عن نشر سيرته ورسائله الموجهة لزوجته فوق صفحات الجرائد والمجلات؟! كانت «فاليري» قد وظفت عدداً من المحررين والمدققين اللغويين السابقين قبل أن تطلب مني شغل هذا المنصب والاهتمام برسائل زوجها الشاعر المتوج «توم ماس سترينز إيليوت»..


لكنني كنت أنا الوحيدة التي شاهدت رسائل ت.س إيليوت وساهمت في نشرها في الجرائد المتخصصة.. رغم حجم مراسلاته إلا أن تو لم ينشر سوى عدة رسائل أثناء حياته... وكان قد وضع مخططاً لطباعتها في كتاب. لم أعد في حيرة من أمري رغم معاناتي من قلة الصبر لأن رسائل الكتاب الثاني كانت الأكثر تأثيراً من بين المئات التي عملت على تدقيق صحتها وتوثيقها.. إنها بيان لانهيار زواج إيليوت الأول، وما رافقه من يأس شخصين غير قادرين على تحاشي تحطيم بعضهما الآخر. ليس لدينا فقط رسائل إيليوت بل العشرات من رسائل كتبتها فيفيان هاي وود إيليوت، زوجة إيليوت الأولى، فيف الهيستيرية في مسرحية «توم وفيف» ل ميشيل هاستينغ. كتاب ثانٍ من الرسائل سيكشف حقيقة ما حدث بينهما وأنا متأكدة أنه سيخلق تعاطفاً مع «إيليوت».


كان إيليوت يغار على خصوصيته بشكل كبير لكن حياته الشخصية كانت معقدة ومضطربة مما أثار اهتمام الناس بشكل طبيعي. لوبقي متزوجاً نصف قرن من زوجة مخلصة مثل «فاليري»لما لفت هذا الأمر الأنظار.. لكن بعد 40 سنة من وفاته، هاهي أرملته تدافع عن سمعته كما كانت خلال زواجهما الذي استمر ثماني سنوات حافظت عليه من دخان وضباب لندن ومن مراسلين حجزوا مقاعد خلف العروسين خلال رحلة شهر العسل إلى الباهاما. تستمر اليوم «فاليري» في حماية رسائله وتحول دون وصول أوراقه إلى الجامعات وترفض اقتباس أعماله".
و


في الأدب أيضا كانت صيغة الرسائل أحد الوسائل التقنية التي استخدمها بعض الكتاب في كتابة بعض الأعمال الروائية، وأحيانا بتضمين نماذج لرسائل، حقيقية أو متخيلة داخل متن العمل الأدبي ذاته. وفي الأدب العربي أيضا كانت هناك الكثير من نماذج الرسائل داخل النص كما فعل يحي حقي في"البوسطجي" مثلا، وكذلك في بعض أعمال إحسان عبد القدوس، ويوسف إدريس الذي كتب نصا عصيا على التصنيف هو "الإرادة" ضمنه بعض أشكال الكتابة المستخدمة في الرسائل، كما كتب الكاتب إدوار الخراط نصا بعنوان "رسائل لن تصل" اتكأ فيها على صيغة الرسالة الموجهة من عاشق لعشيقته، ومن جيل التسعينات نشر الكاتب مصطفى ذكري نصا بعنوان "الرسائل" اعتمد فيه أيضا على نفس التيمة، وإن بشكل أكثر تعقيدا، وتركيبا.
وهكذا يظل السؤال مفتوحا، هل سينتهي عصر الرسائل في المستقبل، أم أن الأدب سيحافظ على مجد الرسائل ويستعيد هيبتها؟


مقتطف من" الرسائل" لمصطفى ذكري



كلما مر الوقت تأكد لي ضياع الخطاب المُرسل لكِ بتاريخ 12/ 5/2004. أي منذ أكثر من شهر. هذا الضياع فيه ضياع آخر على طريقة كل شيء يعني، كل شيء يقول. وإليكِ قصة هذا الخطاب. كتبته على أثر حلم غامض كنتِ فيه مع شخص مُنفِّر نسيتُ اسمه الآن. وكان اسمه حاضراً في الحلم والخطاب كقدر مشؤوم بيننا. قمتِ بتسليم الشخص المجهول كل الرسائل التي كتبتها لكِ. كان هذا التسليم يشبه انتحاراً بارداً من قِبَلكِ. وكنتُ أنا بالمقابل قد قمتُ بإطلاع الشخص المجهول نفسه على سر جارح عنكِ. أذكر جيداً أن هذا الانتحار لم يكن من قِبَلكِ وقِبَلي كفعل ورد فعل، لم يكن انتقاماً على أثر شيء حدث بيننا، لم يكن مُتعاقباً في الزمن على اعتبار أن نصفه حدث في زمن الحلم والنصف الآخر خارج زمن الحلم، ولم يكن أخيراً الشخص المجهول يملك سُلطة علينا إلا إذا كانت شراهته للطعام هي الرمز الأكثر غموضاً للسُلطة.كان هذا الانتحار بكلمات أخرى قَدَم يأس. ذهبتُ إلى مكتب البريد في الصباح، فوجدتُ أعمال ترميم قائمة في المكان كله. ارتبكتُ أيما ارتباك، وكأنَّ مكتب البريد اختفى فجأة. شعرتُ بيأس طاغ، وزاغتْ نظرتي هائمة على خراب المكان. كانت الأماكن دائماً عندما تتعرض لترميم تصيبني بكآبة ويُتْمٍ موجع. لاحظ أحد العُمَّال نظرتي التائهة، فأشار لي ببساطة إلى خلفية المبنى. سألتُ نفسي كيف سيعود المكان كما كان عليه- بل أفضل- بعد شهور قليلة. في الطابق الثاني من خلفية المبنى كانت نظرة الضياع واليُتْم ما زالت عالقة بي. كنتُ خَجِلاً منها، فهي تجعل الجميع يقدمون لي الخَدَمَات بشكل استثنائي، وكأنني طفل فَقَد أمه. شرحتْ لي الموظفة بتفصيل شديد طريقة الوصول للمكانين المؤقتين لبعث الرسائل، ولم يكن أحد المكانين سوى كُشك سجائر صغير أمامه صندوق بريد مِهَكَّع مِدغْدغ. أهذا الصندوق جدير بأن يكون إحدى حلقات الوصل؟ شعرتُ باليأس مرة ثانية، وطلبتُ من الرجل العجوز صاحب الكُشك لصق طابع البريد على الخطاب وعيني تعود للصندوق. وضعتُ الخطاب بكل هواجس الضياع المُهْلِكة. كنتِ في تلك اللحظة قريبة منيِّ للحد الذي معه صعد الضيق إلى الحلق. في الحالات العادية أبقى يومين بعد كل رسالة أبعثها لكِ في رعاية كاملة لمسار الرسالة المُبهم، وليس هناك تناقض في حساب الوقت الموضوعي عندما أبعث إليكِ رسالة كل يومٍ، بل هناك مُضَاعَفة للوقت وتكْثِيرٌ لا سبيل إلى التعبير عنه، مع الرسالة الضائعة دامتْ مدة الرعاية للمسار أياماً لا عدد لها، وكان القياس الوحيد الدال على مرور الزمن محصوراً بين نقطتين رياضيتين والمسافة بينهما.

1 comment:

كراكيب نـهـى مـحمود said...

لطيفه اوي فكرة المدونة
مبروك