تلك الأيام
لا أذكر أنني قرأت كتابا، وعشت مع أبطاله وكاتبه، بكل حواسي، يوما بيوم. وتأثرت براويه في طفولته وصباه، وشبابه وكهولته، وتنسمت الروائح التي شمها، ورأيت بعيني ما رآه ببصيرته مثلما فعل معي كتاب "الأيام" –العلامة- لطه حسين. ولا أذكر أن كتابا أعطاني الحلم في بلوغ الأمل أن أصبح كاتبا قدر ما أمدني هذا الكتاب. كما أنني لم أعرف معنى الدأب، والانتصار على العجز، والتشبث بالقوة الداخلية، المعجزة، مثلما عرفت من"الأيام"، ولم أدرك معنى قوة العقل في مواجهة الجهل والخرافة وضيق الأفق، إلا بعد قراءته. ولم تمتعني إعادة قراءة عمل، بالكامل، مرة، ومرات باستثناء هذا الكتاب.
المدهش أن "أيام" طه حسين، الاستثنائية، كان السبيل إليها كتاب الوزارة المقرر على التعليم الثانوي آنذاك. لاحقا اقتنيت نسخة دار المعارف الشهيرة، ومعها أغلب ما كتبه ذلك المعلم القدير، لكني سأظل ممتنا بمعرفتي بعبقرية الرجل لوزارة التعليم. أما اليوم فلا أشعر إلا بالغبن، وبألم حارق في موضع الروح كما أتصوره، إذ قرأت خبر منع "الأيام" من مناهج القراءة في وزارة التعليم المصرية. وشعرت بأنها محاولة لطمس مرحلة من أكثر مراحل حياتي انتشاء بالمعرفة، ومحو جزء أساسيا من ذاكرة الثقافة المصرية، وإغفال القوة الباطنية العميقة للبصيرة لصالح عمى البصر والعقل معا.
هل يمكن أن يؤدي طمس الأيام إلى إخفاء النقد الذي وجهه كاتبها لمؤسسات التعليم المتحذلقة التي اعتمدت التلقين أساسا لنظامها التعليمي على حساب سبل التعليم الحر المتفتح؟ وهل يمكن أن يؤدي منع الكتاب إلى تغييب أحد أهم الأصوات العربية استنارة في مسيرة الثقافة العربية المعاصرة؟ وهل يمكن أن يذكر التاريخ اسم صاحب القرار(قرار المنع) ويفتح له أبواب التألق كما فعل لكاتب الأيام؟ أم أن مثله، شأن كل حارقي الكتب، مصيرهم، ليس إلا في هاوية جب النفي، مصيرا عادلا من أصل ما انتواه بنفي المعرفة ووأدها؟
ما يدهشني أنني إذ أدين لهذا الكتاب وكاتبه بما أدين، لا أستطيع أن أغفل أن قراءتي الأولى له مر عليها الآن ما يربو على ربع قرن، واليوم، في ذروة الاحتفاء بوسائل الاتصال الحديثة وشبكة الانترنت التي لا يفوتها شاردة ولا واردة يأتي من يمنع علامة من علامات الثقافة والإبداع المصري الحديث عن جيل يعرف بأنه جيل الألفية الجديدة الذي نتوقع منه كل ما لم نستطع وسابقينا أن نحققه.
لكني، ومع ذلك، وكلما سمعت خبر منع أو مصادرة، لا أتحسس سلاحي، وإنما أبتسم، شفقة، وربما أضحك بهيستيريا، إذ أن المانعين، والمصادرين يبدون مثل كائنات لا تعرف كيف تمتنع عن إعادة ارتكاب أخطائها، وتكرارها، لأن التاريخ لم يتحيز أبدا لهم ولأمثالهم، فهؤلاء مكانهم ليس إلا في قرار الظلمة المكين، ولا يبقى سوى نور المعرفة. أبتسم، وأنا أصغي من بعيد لضحكة العميد، مجلجلة، تشاركني الرثاء:رثاء"هذه" الأيام، التي ننتظر،أو لعلني وحدي الذي أنتظر، أن تستعيد مجد "تلك" الأيام!
إبراهيم فرغلي